مقدمة
تشكل المدرسة المغربية فضاءً يُفترض أن يزاوج بين التعلّم والرعاية؛ وأن يحتضن المتعلمين باعتبارهم أفراداً يحتاجون إلى دعم تربوي ونفسي واجتماعي في الآن ذاته. ورغم العقود التي قطعتها الإصلاحات التربوية منذ الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ثم الرؤية الاستراتيجية 2015-2030، ما زال حضور المختص الاجتماعي المدرسي في الممارسة اليومية حضوراً باهتاً، لا يرقى إلى حجم الأدوار التي أُنيطت به على الورق. فالمهنة التي يفترض أن تكون صمام أمان اجتماعي داخل المدرسة تعمل اليوم في غياب إطار قانوني واضح، وبموارد محدودة، ووسط ثقافة إدارية لا ترى في هذا الدور سوى وظيفة ثانوية.
يعالج هذا المقال إشكالية تنطلق أساسًا من سؤالين جوهريين: إلى أي حد ساهم ضعف الشروط الموضوعية وغياب الإرادة التدبيرية الفعلية في إعاقة عمل المختصين الاجتماعيين المدرسيين والتثبيط من فعالية أدوارهم في تقديم الدعم الاجتماعي والنفسي بالمؤسسات التعليمية المغربية؟ وما هي التحديات البنيوية والمؤسساتية التي تواجه هذه الفئة المهنية وتحول دون تحقيق الأهداف المرجوة من عملها؟
# أولاً: الإطار المفاهيمي والسياق التشريعي للدعم الاجتماعي والنفسي
1.1 المفاهيم الأساسية
يُعرّف المختص الاجتماعي المدرسي بأنه مهني متخصص في الخدمة الاجتماعية، يعمل ضمن الفضاء المدرسي بهدف تقديم الدعم الاجتماعي والنفسي للمتعلمين ومواكبتهم في مسارهم الدراسي. تشمل مهامه الأساسية الدعم/ الإرشاد النفسي والاجتماعي، والتدخل في الحالات الفردية والجماعية، والوساطة بين المدرسة والأسرة، والمساهمة في الوقاية من الانقطاع المدرسي، ومعالجة الصعوبات الاجتماعية والسلوكية التي تواجه المتعلمين.
يرتكز عمل المختص الاجتماعي المدرسي على مقاربة شمولية تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد النفسية والاجتماعية والأسرية والاقتصادية المؤثرة على المسار الدراسي للمتعلم(ة). فهو حلقة وصل أساسية بين المؤسسة التعليمية والمحيط السوسيو-اقتصادي، ويلعب دوراً محورياً في تحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص.
من جهة أخرى، تُعتبر الشروط الموضوعية مجموعة الإمكانيات المادية والبشرية والتنظيمية الضرورية لتمكين المختصين الاجتماعيين من أداء مهامهم بفعالية. أما الإرادة التدبيرية، فتحيل على الالتزام الحقيقي والفعلي من قبل المسؤولين بتوفير الظروف الملائمة لعمل هؤلاء المهنيين والاعتراف بدورهم المحوري في المنظومة التربوية.
1.2 المرجعيات الدولية والوطنية: بين الالتزامات والممارسة
1.2.1 المرجعيات الدولية والاتفاقيات الملزمة
يرتكز الإطار المعياري الدولي لعمل المختصين الاجتماعيين المدرسيين على مجموعة من الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب وأصبحت بذلك جزءاً من التشريع الوطني. في مقدمة هذه المرجعيات تأتي اتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989 التي صادق عليها المغرب سنة 1993، والتي تنص في موادها على حق الطفل في التعليم (المادة 28)، وفي الحماية من جميع أشكال العنف والإهمال (المادة 19)، وفي الحصول على خدمات الصحة النفسية والرعاية الاجتماعية (المادة 24). هذه الاتفاقية تُلزم الدولة المغربية بتوفير الآليات المؤسساتية، ومنها المختصون الاجتماعيون المدرسيون، لضمان هذه الحقوق.
كما صادق المغرب على العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1979)، الذي يكرس الحق في التعليم وفي مستوى معيشي لائق، مما يستوجب توفير الدعم الاجتماعي للفئات الهشة. إضافة إلى ذلك، فإن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) التي صادق عليها المغرب سنة 1993، والبروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية حقوق الطفل بشأن بيع الأطفال واستغلالهم في البغاء والمواد الإباحية (2001)، تفرض التزامات على الدولة بحماية الأطفال والفتيات من الاستغلال والعنف، وهي مهام تدخل ضمن صميم عمل المختصين الاجتماعيين المدرسيين.
كما يُعتبر المغرب طرفاً في الميثاق الأفريقي لحقوق ورفاهية الطفل (1990)، الذي يُشدد على أهمية التعليم والرعاية الاجتماعية للأطفال. كما أن أهداف التنمية المستدامة 2030، وخاصة الهدف الرابع المتعلق بالتعليم الجيد والشامل، تستلزم تطوير نظم دعم اجتماعي ونفسي فعالة داخل المؤسسات التعليمية.
على الصعيد المهني الدولي، تُشكل المعايير العالمية للخدمة الاجتماعية الصادرة عن الاتحاد الدولي للأخصائيين الاجتماعيين (IFSW) مرجعاً أساسياً يحدد المبادئ الأخلاقية والمهنية للممارسة، بما في ذلك احترام كرامة الإنسان، والعدالة الاجتماعية، والسرية المهنية. هذه المعايير تؤكد على ضرورة توفير تكوين متخصص، وظروف عمل ملائمة، واعتراف مؤسساتي بالمهنة.
1.2.2 المرجعيات الوطنية والإطار الدستوري
على المستوى الوطني، يُشكل دستور 2011 حجر الزاوية في الإطار القانوني، حيث كرّس الحق في التعليم (الفصل 32)، والحق في الحماية الاجتماعية (الفصل 31)، والحق في الصحة (الفصل 31)، والحق في حياة كريمة للطفل (الفصل 32). كما نص الدستور على أن المعاهدات الدولية المصادق عليها من طرف المغرب تسمو على التشريعات الوطنية (الفصل 19)، مما يجعل الاتفاقيات الدولية المذكورة أعلاه ملزمة قانونياً.
تُعتبر الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030 وثيقة مرجعية أساسية، حيث نصت في الرافعة الثانية عشرة على ضرورة "تطوير آليات الدعم الاجتماعي لفائدة المتعلمات والمتعلمين المنحدرين من الأوساط الاجتماعية الهشة"، وأكدت على أهمية "تعزيز خلايا الإنصات والوساطة والمواكبة النفسية والاجتماعية". كما أن القانون الإطار 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي (2019) نص في المادة 33 على ضرورة تطوير "آليات الدعم الاجتماعي والنفسي والتربوي".
على مستوى حماية الطفولة، يُشكل القانون رقم 19.12 المتعلق بتحديد شروط الشغل والتشغيل المتعلقة بالعاملات والعمال المنزليين (2016)، والقانون رقم 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء (2018)، والقانون رقم 10.16 المتعلق بمؤسسات الرعاية الاجتماعية (2018)، إطاراً تشريعياً يستوجب تدخل المختصين الاجتماعيين لحماية الأطفال من مختلف أشكال الاستغلال والعنف.
1.2.3 النصوص التنظيمية وحدودها
يُعد إدراج مهام إطار المختص الاجتماعي في المادة 15 من النظام الأساسي لموظفي الوزارة المكلفة بالتربية الوطنية (23 فبراير 2024) خطوة تنظيمية أنهت فعلياً العمل بالمقتضيات السابقة التي كانت تُؤطّر مهام هذه الفئة، وعلى رأسها القرار الوزاري رقم 064.22 المتعلق بتدقيق مهام الملحقين: الاقتصاد، والإدارة التربوية، والاجتماعيين.
هذا القرار كان يعتمد مقاربة “الملحق الاجتماعي” ضمن إطار عام يضم فئات مهنية متباينة، ويجمع بينها في سلة واحدة، دون فصل واضح بين التخصصات أو تحديد دقيق للمهام الخاصة بمجال العمل الاجتماعي داخل المؤسسات التعليمية. وقد أدى ذلك إلى غموض كبير في الممارسة، وإلى تكليف الملحقين الاجتماعيين بمهام إدارية أو تدبيرية لا تمتّ بصلة للدور الاجتماعي المدرسي.
مع دخول النظام الأساسي 2024 حيّز التنفيذ، جاءت المادة 15 لتنسخ عملياً ذلك القرار لأنها:
تفصل مهنة المختص الاجتماعي عن فئات الملحقين الآخرين، وتمنحها هوية مهنية مستقلة. تحدد المهام بدقة: المواكبة النفسية والاجتماعية والصحية للمتعلمين، تدبير الحياة المدرسية، تدبير الصحة المدرسية والتواصل مع الأسر، والمشاركة في الأنشطة التربوية والاجتماعية الموازية. تعيد تعريف المجال المهني على أساس وظيفة اجتماعية-نفسية واضحة، وليس مجرد ملحق إداري ذي مهام عامة. تنقل المهنة من وضع “ملحق” إلى وضع “مختص”، أي من وظيفة مساعدة إلى وظيفة تتضمن استقلالية مهنية ومجال تدخل محدداً.
وبهذا النسخ، فقد القرار رقم 064.22 المرجعية التي كان يستند إليها في تحديد مهام الملحقين الاجتماعيين، إذ أصبحت المادة 15 هي الإطار القانوني الأعلى مرتبة والأكثر حداثة، وبالتالي المرجع الوحيد المعتمد حالياً في تحديد هوية ومهام المختص الاجتماعي.
غير أن هذا النسخ، رغم أهميته، لا يُحلّ جميع الإشكالات، لأن المادة 15 ما تزال عامة، وتفتقر إلى تفصيل تشريعي يوضح شروط الممارسة، ضوابط التدخل، الاستقلالية المهنية، والعلاقات التنظيمية مع باقي الفاعلين داخل المؤسسة. أي أنها نسخت القديم دون أن تبني إطاراً مؤسساتياً متكاملاً يعالج جذور الإشكال.
1.2.4 ترافع المجتمع المدني والحركة المهنية
شهدت السنوات الأخيرة تحركاً ملحوظاً من طرف الجمعيات المهنية ومنظمات المجتمع المدني للمطالبة بتنظيم مهنة الخدمة الاجتماعية المدرسية وتحسين ظروف عمل المختصين. من أبرز هذه الجهات الجمعية المغربية للمساعدين الاجتماعيين، كما أطلقت الجمعية المغربية لحماية الطفولة والائتلاف المغربي من أجل التربية للجميع والمرصد الوطني لحقوق الطفل عدة حملات للترافع من أجل تعزيز آليات الدعم الاجتماعي والنفسي بالمؤسسات التعليمية، وإدماج المختصين الاجتماعيين كفاعلين أساسيين في منظومة حماية الطفولة.
في سنة 2018، قدمت مجموعة من الجمعيات المهنية مذكرة مطلبية إلى البرلمان تطالب بإحداث نظام أساسي خاص بالمختصين الاجتماعيين والنفسيين العاملين بقطاع التربية الوطنية، وإقرار مسار مهني واضح، وتوفير ظروف عمل ملائمة. كما تم تنظيم المناظرة الوطنية الأولى للخدمة الاجتماعية المدرسية سنة 2019 بشراكة بين المجتمع المدني والجامعة، حيث أوصى المشاركون بضرورة الإسراع بإخراج قانون تنظيمي للمهنة.
تنامى أيضاً دور النقابات التعليمية في الدفاع عن حقوق المختصين الاجتماعيين، حيث أدرجت ضمن مطالبها النقابية تحسين أوضاع هذه الفئة المهنية، ووقف استغلالهم في مهام إدارية، وضمان الحماية القانونية لعملهم. بعض النقابات أصدرت بيانات رسمية تستنكر فيها تهميش دور المختصين الاجتماعيين وتطالب بإدماجهم الفعلي في الفرق التربوية.
على المستوى الأكاديمي، ساهمت كليات علوم التربية ومعاهد العمل الاجتماعي ومراكز البحث الجامعي في إنتاج دراسات ميدانية وبحوث علمية توثق واقع المختصين الاجتماعيين المدرسيين وتقدم توصيات للإصلاح. كما تم تنظيم ملتقيات علمية وطنية ودولية حول الخدمة الاجتماعية المدرسية، ساهمت في نشر الوعي بأهمية هذه المهنة وضرورة تطويرها.
1.2.5 الفجوة بين الالتزامات والممارسة
رغم كل هذه المرجعيات الدولية والوطنية، ورغم الترافع المستمر من طرف المجتمع المدني، يبقى المغرب يفتقر إلى قانون منظم لمهنة الخدمة الاجتماعية المدرسية يحدد المعايير المهنية والأخلاقية، ويحمي حقوق المختصين ويضمن استقلاليتهم المهنية. هذا الفراغ القانوني يساهم في تهميش دور هذه الفئة وعدم الاعتراف الكامل بأهمية عملها ضمن المنظومة التربوية، ويُبقي الممارسة المهنية رهينة الاجتهادات الفردية والتأويلات الإدارية المتضاربة.
إن الفجوة بين الالتزامات الدولية والدستورية من جهة، والواقع الممارساتي من جهة أخرى، تطرح أسئلة جدية حول الإرادة السياسية الفعلية لتفعيل هذه المرجعيات وترجمتها إلى سياسات عمومية ملموسة تُمكّن المختصين الاجتماعيين المدرسيين من القيام بأدوارهم في حماية الأطفال وضمان حقهم في تعليم جيد وشامل.
ثانياً: تشخيص واقع المختصين الاجتماعيين المدرسيين
2.1 النقص الفادح في الموارد البشرية المتخصصة
يُعد العجز الكبير في عدد المختصين الاجتماعيين المدرسيين أحد أبرز معوقات تفعيل برامج الدعم الاجتماعي والنفسي بالمؤسسات التعليمية المغربية. يبقى عدد هؤلاء المهنيين محدوداً جداً مقارنة بحجم المنظومة التربوية وعدد المتمدرسين، حيث يصل المعدل في بعض الجهات إلى مختص اجتماعي واحد لعدة آلاف من التلاميذ، وأحياناً لمجموعة من المؤسسات التعليمية المتباعدة جغرافياً.
هذا الواقع يجعل من المستحيل تقريباً على المختص الاجتماعي المدرسي القيام بمهامه بشكل فعال. فبدلاً من التركيز على المتابعة الفردية المعمقة للحالات والتدخلات الوقائية والعلاجية، يجد نفسه مضطراً للتنقل المستمر بين المؤسسات، والاكتفاء بمعالجة الحالات الطارئة فقط، دون القدرة على بناء علاقات مهنية مستدامة مع المتعلمين وأسرهم.
إضافة إلى ذلك، يتركز أغلب المختصين الاجتماعيين في المراكز الحضرية، بينما تعاني المناطق القروية والنائية من غياب شبه تام لهذه الخدمات. هذا التوزيع غير المتوازن يُعمق الفوارق المجالية ويحرم الفئات الأكثر هشاشة من حقها في الاستفادة من الدعم الاجتماعي والنفسي.
2.2 ضعف التكوين الأساسي والمستمر
تُظهر الملاحظات الميدانية أن العديد من المختصين الاجتماعيين المدرسيين يواجهون إشكالية التكوين الأساسي غير الملائم للممارسة المهنية داخل الفضاء المدرسي. فبعض هؤلاء المهنيين لم يتلقوا تكويناً متخصصاً في الخدمة الاجتماعية المدرسية، وإنما تكويناً عاماً في علم الاجتماع، علم النفس أو الفلسفة، مما يخلق فجوة بين المعارف النظرية المكتسبة ومتطلبات الممارسة المهنية الميدانية.
من جهة أخرى، يغيب التكوين المستمر المنظم والمؤسساتي الذي يُمكّن المختصين الاجتماعيين من تطوير كفاياتهم ومواكبة المستجدات العلمية والمنهجية في مجال الخدمة الاجتماعية المدرسية. فالدورات التكوينية القليلة التي تُنظم غالباً ما تكون قصيرة وسطحية، ولا تستجيب للحاجيات الحقيقية للممارسين.
كما أن غياب الإشراف المهني والمواكبة التقنية يجعل المختصين الاجتماعيين، وخاصة الجدد منهم، يواجهون صعوبات في التعامل مع الحالات المعقدة، ويلجؤون إلى الاجتهاد الشخصي بدل الاعتماد على بروتوكولات مهنية واضحة ومعترف بها. هذا الوضع يؤثر سلباً على جودة الخدمات المقدمة ويُعرض المهنيين أنفسهم لضغوطات نفسية ومهنية كبيرة.
2.3 غياب البنية التحتية وظروف العمل الملائمة
يواجه المختصون الاجتماعيون المدرسيون صعوبات كبيرة في ممارسة مهامهم بسبب غياب أو ضعف البنية التحتية الضرورية. فالعديد من المؤسسات التعليمية، وخاصة في المناطق القروية والنائية، تفتقر إلى فضاءات مخصصة ومجهزة للاستقبال والإنصات، مما يضطر المختص الاجتماعي إلى استقبال الحالات في ظروف لا تحترم السرية المهنية ولا توفر المناخ الملائم للحوار والمساعدة.
كما يعاني هؤلاء المهنيون من نقص حاد في الوسائل اللوجستيكية الضرورية لعملهم، كالحواسيب والهواتف المهنية ووسائل التنقل، مما يحد من قدرتهم على التواصل الفعال مع الأسر والشركاء، وعلى توثيق عملهم وإعداد التقارير المهنية. في غياب هذه الوسائل، يضطر المختصون الاجتماعيون إلى استعمال إمكانياتهم الشخصية، مما يُشكل عبئاً مادياً إضافياً عليهم.
إضافة إلى ذلك، تُعاني هذه الفئة المهنية من عدم وضوح المنظومة الإدارية التي تؤطر عملها. فالكثير من المختصين الاجتماعيين يجدون أنفسهم في وضعية إدارية غامضة، حيث يتلقون توجيهات متضاربة من جهات مختلفة، ولا يتوفرون على إطار تنظيمي واضح يحدد مسؤولياتهم وعلاقاتهم المهنية مع باقي الفاعلين التربويين.
ثالثاً: معضلة غياب الإرادة التدبيرية وتهميش الدور المهني
3.1 غياب الاعتراف المؤسساتي بالمهنة
رغم الأهمية الاستراتيجية لدور المختصين الاجتماعيين المدرسيين، فإن الواقع يكشف عن غياب اعتراف مؤسساتي حقيقي بهذه المهنة وأدوارها. تتجلى مظاهر هذا الغياب في عدم وجود إطار قانوني خاص ينظم مهنة الخدمة الاجتماعية المدرسية، وفي ضبابية النصوص التنظيمية التي تحدد المهام والمسؤوليات، وفي غياب مسار مهني واضح يضمن التطور والترقية.
هذا الغياب للاعتراف المؤسساتي ينعكس مباشرة على الممارسة الميدانية، حيث يُنظر إلى المختص الاجتماعي المدرسي في كثير من الأحيان كموظف إداري عادي يمكن تكليفه بمهام بعيدة عن تخصصه، بدلاً من اعتباره مهنياً متخصصاً له استقلاليته المهنية وأخلاقياته الخاصة. هذه النظرة التقليصية تُفقد المهنة قيمتها وتحد من فعاليتها في خدمة المتعلمين.
إضافة إلى ذلك، لا يتوفر المختصون الاجتماعيون على تمثيلية مهنية قوية أو على هيئة مهنية تدافع عن حقوقهم وتحمي استقلاليتهم المهنية، مما يجعلهم في وضعية ضعف وتبعية إدارية تحول دون ممارسة مهامهم بالشكل الأمثل.
3.2 تكليف المختصين بمهام بعيدة عن اختصاصهم
من أبرز مظاهر غياب الإرادة التدبيرية الجدية تكليف المختصين الاجتماعيين المدرسيين بمهام إدارية ولوجستية بعيدة كل البعد عن اختصاصهم المهني، حيث تُستنزف طاقاتهم في العمل الإداري على حساب المهام المهنية الأساسية. ويزداد الأمر تعقيداً حين يتحول هذا الانحراف الوظيفي إلى ممارسة ممنهجة تُغذيها أشكال من الشطط في سلطة بعض الرؤساء المباشرين، الذين يفرضون على المختصين الاجتماعيين مهام لا صلة لها بتخصصهم، تحت مباركة صامتة من أجهزة الإدارة. هذه المقاربة التقنوية الترقيعية، التي تنظر إلى المختص الاجتماعي كيد عاملة احتياطية قابلة للملء والاستعمال في أي موقع، تُفرغ المهنة من مضمونها وتعيد إنتاج الهشاشة المهنية والمؤسساتية نفسها.
وفي السياق نفسه، تكشف بعض المشاريع التي تتبناها الوزارة عن اختلالات في التصور وفي توجيه الموارد البشرية المؤهلة. فمشروع ورشات الدعم النفسي بإعداديات الريادة مثلاً، يُقدَّم على أنه مبادرة لتعزيز الرعاية الاجتماعية والنفسية، لكنه في جوهره يركز على التنشيط التربوي أكثر من تركيزه على بناء خدمة اجتماعية متكاملة، كما يُفترض أن ترومه السياسات العمومية في هذا المجال. هذا التوجه يُعيد إنتاج المشكلة نفسها: تحويل العمل الاجتماعي من ممارسة مهنية قائمة على التشخيص والتدخل والمواكبة إلى أنشطة عامة وفضفاضة لا تتطلب بالضرورة خبرة المختص الاجتماعي. يضاف إلى ذلك أن المشروع نفسه يعاني من اختلالات منهجية ومعيارية تجعل أثره محدوداً، وتحوّله إلى مبادرة تكميلية لا تعالج جذور الإشكالات النفسية والاجتماعية داخل المؤسسات.
هذه الممارسة تعكس سوء فهم لطبيعة عمل المختص الاجتماعي المدرسي ودوره في المنظومة التربوية. فبدلاً من الاستثمار في كفاياته المهنية للتدخل مع الحالات الفردية والأسرية، ولبناء برامج وقائية وتنموية، يتم اختزال دوره في مجرد موظف إداري يُنفذ تعليمات دون أن تُتاح له الفرصة لممارسة مهنته الحقيقية.
كما يواجه المختصون الاجتماعيون ضغوطاً مستمرة لإنجاز مهام لا تدخل ضمن صلاحياتهم، كالمشاركة في حملات التسجيل أو تنظيم الامتحانات...إلخ، مما يؤدي إلى تشتت جهودهم واستنزاف وقتهم الذي كان يجب أن يُخصص للعمل المباشر مع المتعلمين وأسرهم.
3.4 غياب ثقافة التقدير المؤسساتي والمجتمعي
لا يمكن فهم معضلة غياب الإرادة التدبيرية دون الإشارة إلى عوامل ثقافية ومؤسساتية عميقة. فالعقلية السائدة في بعض الأوساط التربوية والإدارية لا تزال تنظر إلى عمل المختص الاجتماعي المدرسي باعتباره أمراً ثانوياً أو كمالياً، وليس جزءاً أساسياً من العملية التربوية. هذه النظرة التقليدية تجعل الأولوية منصبة على الجوانب البيداغوجية المحضة، مُهمشةً الأبعاد النفسية والاجتماعية.
يعاني المختصون الاجتماعيون من غياب التقدير المهني والمعنوي لعملهم، حيث نادراً ما يتم الاعتراف بإنجازاتهم أو تثمين جهودهم. بل في كثير من الأحيان، يواجهون سوء فهم لطبيعة عملهم من طرف باقي الأطر التربوية والإدارية، مما يخلق توترات وصعوبات في التعاون والتنسيق.
على المستوى المجتمعي، لا تزال ثقافة اللجوء إلى المختص الاجتماعي ضعيفة، حيث تنظر العديد من الأسر إلى طلب المساعدة الاجتماعية كنوع من العيب أو الوصم الاجتماعي. هذا الواقع يحد من فعالية التدخلات ويجعل الكثير من الحالات التي تحتاج إلى دعم لا تصل إلى المختص الاجتماعي إلا في مراحل متأخرة جداً، مما يُصعب معالجتها.
كما أن مقاومة التغيير من طرف بعض الفاعلين، سواء بسبب الخوف من الكشف عن قصور في الأداء المؤسساتي أو بسبب عدم الاقتناع بجدوى العمل الاجتماعي، تُشكل عائقاً أمام أي محاولة للإصلاح. فالتحول من ثقافة مؤسساتية تقليدية إلى ثقافة تضع المتعلم وحاجياته النفسية والاجتماعية في صلب اهتماماتها يتطلب قيادة تربوية واعية وملتزمة، وهو ما يفتقر إليه الواقع في كثير من الحالات.
رابعاً: الانعكاسات السلبية لضعف دور المختصين الاجتماعيين
4.1 تفاقم ظاهرة الهدر المدرسي
يُعتبر ضعف تفعيل دور المختصين الاجتماعيين المدرسيين أحد العوامل الرئيسية المساهمة في استمرار ظاهرة الهدر المدرسي بالمغرب. فالعديد من حالات الانقطاع عن الدراسة تعود إلى أسباب اجتماعية وأسرية واقتصادية كان يمكن للمختص الاجتماعي معالجتها بتدخل مبكر وفعال، لو توفرت له الإمكانيات والوقت اللازمان.
التلاميذ الذين يعانون من مشاكل أسرية حادة، كالعنف المنزلي أو الطلاق أو وفاة أحد الوالدين، أو من فقر شديد يحول دون توفير الحاجيات الأساسية للدراسة، أو من استغلال اقتصادي في العمل المبكر، جميعهم يحتاجون إلى تدخل متخصص من المختص الاجتماعي الذي يمكنه الوساطة مع الأسر، وتوجيههم نحو الجهات المختصة، وتوفير الدعم المادي أو العيني الضروري.
غير أن العدد المحدود من المختصين الاجتماعيين، وتكليفهم بمهام إدارية، وضعف الإمكانيات المتاحة لهم، كلها عوامل تجعل التدخل المبكر شبه مستحيل. وبالتالي، تتفاقم حالات الضعف الاجتماعي والنفسي حتى تصل إلى نقطة اللاعودة، حيث ينقطع المتعلم عن الدراسة نهائياً، مما يُكلف المجتمع أكثر بكثير على المديين المتوسط والبعيد.
4.2 ضعف معالجة الحالات الاجتماعية والنفسية المعقدة
لا يمكن فصل الأداء الأكاديمي للمتعلمين عن حالتهم النفسية والاجتماعية. فالطفل الذي يعيش في بيئة أسرية مضطربة، أو يُعاني من الحرمان المادي، أو يتعرض للعنف والإهمال، لن يتمكن من الاستفادة الكاملة من العملية التعليمية مهما كانت جودة البرامج والمناهج.
في غياب تدخل متخصص من المختص الاجتماعي المدرسي، تبقى هذه الحالات دون معالجة حقيقية، مما يؤدي إلى تراكم المشاكل وتعقيدها. فالمختص الاجتماعي هو الوحيد المؤهل لإجراء تشخيص اجتماعي دقيق، ولوضع خطط تدخل فردية، ولمتابعة تطور الحالات بشكل منهجي ومهني. لكن عندما يكون هذا المهني مثقلاً بعشرات أو مئات الحالات، أو مكلفاً بمهام إدارية، فإنه يعجز عن تقديم الخدمة المهنية المطلوبة.
النتيجة هي أن الكثير من المتعلمين الذين يواجهون صعوبات اجتماعية ونفسية لا يتلقون الدعم المناسب في الوقت المناسب، مما يؤثر على تحصيلهم الدراسي، ويزيد من احتمالات تعرضهم للتعثر أو الانقطاع، ويحرمهم من فرصة تطوير إمكانياتهم وتحقيق ذواتهم.
4.3 اتساع الفوارق الاجتماعية والتعليمية
يُساهم ضعف توفير خدمات المختصين الاجتماعيين المدرسيين في تعميق الفوارق بين المتعلمين من خلفيات سوسيو-اقتصادية مختلفة. فالأطفال المنحدرون من أسر ميسورة يستطيعون، في حالة حاجتهم، الاستفادة من خدمات الدعم النفسي والاجتماعي في القطاع الخاص، بينما يبقى أبناء الأسر الفقيرة والهشة محرومين من هذه الخدمات في ظل ضعف العرض العمومي.
هذا الوضع يُكرس دائرة الفقر والإقصاء، ويحول دون تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص الذي تنص عليه جميع المرجعيات الوطنية. فالمدرسة العمومية، التي يُفترض أن تكون فضاءً للارتقاء الاجتماعي من خلال توفير خدمات الدعم والمواكبة لجميع المتعلمين بغض النظر عن أصولهم الاجتماعية، تتحول في ظل غياب المختصين الاجتماعيين الكافين إلى آلية لإعادة إنتاج الفوارق الطبقية.
إن الاستثمار في المختصين الاجتماعيين المدرسيين وتمكينهم من القيام بمهامهم بفعالية هو في الحقيقة استثمار في العدالة الاجتماعية والإنصاف التربوي، وهو شرط ضروري لبناء مجتمع متماسك ومنصف.
خامساً: مداخل الإصلاح وتثمين دور المختصين الاجتماعيين المدرسيين
5.1 بناء إطار قانوني ومؤسساتي واضح
يتطلب إنجاح عمل المختصين الاجتماعيين المدرسيين، قبل كل شيء، بناء إطار قانوني ومؤسساتي واضح ينظم هذه المهنة ويحدد أدوارها ومسؤولياتها. يجب إصدار قانون خاص بمهنة الخدمة الاجتماعية المدرسية يحدد المعايير المهنية والأخلاقية، ويضمن الاستقلالية المهنية للممارسين، ويحمي حقوقهم، ويرسم مساراً مهنياً واضحاً للتطور والترقية.
كما يجب مراجعة النصوص التنظيمية الحالية لتوضيح مهام المختص الاجتماعي المدرسي بدقة، وتمييزها عن المهام الإدارية والتدبيرية. ينبغي أن تُركز هذه المهام على الجوانب المهنية الأساسية كالتشخيص الاجتماعي، والتدخل مع الحالات الفردية والجماعية، والوساطة الأسرية، وبناء برامج وقائية وتنموية، دون أن يتم تكليف المختصين بمهام لا علاقة لها بتخصصهم.
وإلى جانب الإطار القانوني، يُعد إصدار بروتوكول عمل تدخّلي وطني موحّد خطوة محورية لضبط الممارسة المهنية. هذا البروتوكول يجب أن يُحدد بدقة مراحل التدخل الاجتماعي المدرسي، أدوات التشخيص، مساطر الإحالة، آليات التتبع، حدود المسؤولية المهنية، وضوابط التعاون مع باقي المتدخلين داخل المؤسسة وخارجها. وجود هذا الإطار الإجرائي يضمن انسجام الممارسات، ويحمي المهنيين من التأويلات الإدارية المتضاربة، ويُرسّخ تدخلاً قائماً على منهجية واضحة لا على الاجتهادات الفردية.
من الضروري أيضاً إحداث هيئة مهنية وطنية للمختصين الاجتماعيين المدرسيين تعمل على تطوير المهنة، ووضع معايير الممارسة الجيدة، وتنظيم التكوين المستمر، والدفاع عن حقوق المهنيين. هذه الهيئة يمكن أن تلعب دوراً محورياً في الارتقاء بالمهنة وتعزيز الاعتراف المؤسساتي والمجتمعي بها.
5.2 التوظيف المكثف وتحسين ظروف العمل
يُشكل التوظيف المكثف للمختصين الاجتماعيين المدرسيين أولوية قصوى. يستدعي ذلك وضع مخطط وطني طموح لتوظيف عدد كافٍ من المهنيين المؤهلين بما يتناسب مع عدد المتعلمين والمؤسسات التعليمية. المعايير الدولية توصي بمعدل مختص اجتماعي واحد لكل 250 إلى 500 متعلم، وهو ما يبقى بعيد المنال في الواقع المغربي الحالي.
يجب أن يُراعى التوزيع العادل لهؤلاء المهنيين على جميع الجهات والأقاليم، مع إيلاء عناية خاصة للمناطق القروية والنائية التي تعاني من حرمان شديد من هذه الخدمات. كما ينبغي تخصيص المختصين الاجتماعيين للمؤسسات التعليمية بشكل ثابت ودائم، بدل اللجوء إلى فرض تكليفات بغرض سد الخصاص، مما يُمكنهم من بناء علاقات مهنية مستدامة مع المتعلمين وأسرهم والأطر التربوية.
إلى جانب التوظيف، من الضروري تحسين ظروف عمل المختصين الاجتماعيين من خلال توفير فضاءات مجهزة للاستقبال والإنصات بالمؤسسات التعليمية، وتزويدهم بالوسائل اللوجستيكية الضرورية كالحواسيب والهواتف المهنية ووسائل التنقل. كما يجب ضمان وضعية إدارية واضحة ومستقرة لهم، مع تحديد دقيق لمرجعياتهم الإدارية وعلاقاتهم المهنية مع مختلف المتدخلين.
5.3 تطوير التكوين الأساسي والمستمر
لا يمكن ضمان جودة الخدمات المقدمة دون الاستثمار في تكوين متخصص ورفيع المستوى للمختصين الاجتماعيين المدرسيين. يجب مراجعة برامج التكوين الأساسي في مجال الخدمة الاجتماعية لتضمين مكونات متخصصة في المجال المدرسي، تشمل علم النفس التربوي، وسوسيولوجيا التربية، وتقنيات التدخل مع الأطفال والمراهقين، والتشريع المدرسي، وآليات الحماية الاجتماعية للطفولة.
يجب أيضاً إحداث مسالك جامعية متخصصة في الخدمة الاجتماعية المدرسية على مستوى الإجازة والماستر، مع ضمان تكوين عملي مكثف من خلال التداريب الميدانية المؤطرة في المؤسسات التعليمية. هذا التكوين الأكاديمي المتين يُشكل الأساس الذي يُبنى عليه التطور المهني اللاحق.
على مستوى التكوين المستمر، ينبغي وضع برنامج وطني منظم ومستدام يُمكّن المختصين الاجتماعيين من تطوير كفاياتهم بشكل دوري. يجب أن يشمل هذا البرنامج تكوينات متخصصة في مجالات كالتعامل مع حالات العنف ضد الأطفال، ومواكبة ذوي الاحتياجات الخاصة، والوساطة الأسرية، وتقنيات الإنصات الفعال، والتدخل في الأزمات، إضافة إلى التعريف بالمستجدات التشريعية والمؤسساتية.
من الضروري أيضاً إحداث نظام للإشراف المهني والمواكبة التقنية، حيث يستفيد المختصون الاجتماعيون، وخاصة الجدد منهم، من متابعة ودعم مهنيين ذوي خبرة يساعدونهم على مواجهة التحديات الميدانية وتطوير ممارساتهم المهنية.
5.4 بناء شبكات التعاون وتعزيز العمل الشبكي
يستلزم النجاح في تفعيل دور المختصين الاجتماعيين المدرسيين بناء شبكات تعاون فعلية ومستدامة بين المختصين أنفسهم من جهة، وبين المختصين والقطاعات الأخرى ذات الصلة من جهة ثانية. على المستوى الداخلي، يجب تشجيع تبادل الخبرات والممارسات الجيدة بين المختصين الاجتماعيين، من خلال تنظيم لقاءات دورية، وإنشاء مجموعات عمل جهوية ووطنية، وتطوير منصات رقمية للتواصل المهني.
على مستوى التنسيق القطاعي، يجب وضع بروتوكولات تعاون واضحة ومفعلة بين قطاع التربية والقطاعات الأخرى كالصحة والتنمية الاجتماعية والعدل وحماية الطفولة. ينبغي أن تحدد هذه البروتوكولات بدقة أدوار ومسؤوليات كل طرف، وآليات تبادل المعلومات مع احترام السرية المهنية، ومساطر الإحالة والمتابعة المشتركة للحالات.
كما يجب فتح المجال أمام شراكات فعالة مع المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية المتخصصة في حماية الطفولة والدعم الاجتماعي، والاستفادة من خبراتها ومواردها في تعزيز الخدمات المقدمة. إن خلق شبكات محلية متكاملة للحماية والدعم حول كل مؤسسة تعليمية، تضم المختصين الاجتماعيين والأطر التربوية والصحية والقضائية والمجتمع المدني، يمكن أن يُحدث نقلة نوعية في فعالية التدخلات.
5.5 تغيير الثقافة المؤسساتية والاعتراف بالقيمة المهنية
يتطلب الإصلاح العميق تحولاً في الثقافة المؤسساتية السائدة تجاه المختصين الاجتماعيين المدرسيين ودورهم. يجب العمل على نشر ثقافة الاعتراف بالخدمة الاجتماعية المدرسية كمهنة أساسية ومحورية في المنظومة التربوية، وليس كوظيفة ثانوية أو هامشية. هذا يستدعي حملات توعية وتحسيس موجهة للأطر الإدارية والتربوية، لتعريفهم بدور المختص الاجتماعي وأهمية التعاون معه.
من المهم أيضاً تثمين عمل المختصين الاجتماعيين من خلال الاعتراف المعنوي والمادي بإنجازاتهم، وإشراكهم الفعلي في اتخاذ القرارات المتعلقة بالمتعلمين والسياسات التربوية. يجب أن يُنظر إلى المختص الاجتماعي كشريك أساسي في الفريق التربوي، وليس كمجرد منفذ لتعليمات إدارية.
على المستوى المجتمعي، ينبغي العمل على محاربة الوصم المرتبط بطلب المساعدة الاجتماعية، وتشجيع الأسر على التواصل مع المختصين الاجتماعيين عند مواجهة صعوبات. إن خلق بيئة مدرسية إيجابية وآمنة، يشعر فيها كل متعلم وأسرته بإمكانية طلب الدعم دون خجل أو خوف، هو الأساس الذي تُبنى عليه جميع البرامج الأخرى.
أخيراً، من الضروري تطوير نظام للتقييم والمتابعة يُركز على جودة الخدمات المقدمة وأثرها على المتعلمين، بدل التركيز على الجوانب الإدارية الشكلية. هذا التقييم يجب أن يأخذ بعين الاعتبار خصوصية العمل الاجتماعي والبعد الكيفي لتدخلاته، وألا يقتصر على مؤشرات كمية قد لا تعكس الواقع الحقيقي للممارسة المهنية.
خاتمة
إن المختصين الاجتماعيين المدرسيين بالمغرب رغم أهمية دورهم الاستراتيجي في تفعيل برامج الدعم الاجتماعي والنفسي، لا يزالون يعانون من اختلالات عويصة ترتبط بضعف أو غياب الشروط الموضوعية والإرادة التدبيرية الحقيقية. إن النقص الفادح في عددهم، وضعف تكوينهم المتخصص، وغياب البنية التحتية الملائمة، وتكليفهم بمهام بعيدة عن اختصاصهم، وانعدام الاعتراف المؤسساتي والمجتمعي بمهنتهم، كلها عوامل تُساهم في جعل عملهم محدود الأثر وغير قادر على تلبية الحاجيات المتزايدة للمتعلمين وأسرهم.
لقد أصبح من الواضح أن معالجة هذه الإشكالية تتطلب أكثر من مجرد إصدار مذكرات وزارية أو إطلاق برامج موسمية. إنها تحتاج إلى إرادة سياسية قوية وملزمة، واستثمار حقيقي في الموارد البشرية والمادية، وبناء إطار قانوني ومؤسساتي واضح، وتحول عميق في الثقافة التربوية والمجتمعية. فالمدرسة لا يمكن أن تؤدي وظيفتها التربوية والتنموية إلا إذا أصبحت فضاءً شاملاً يُراعي الأبعاد النفسية والاجتماعية للمتعلمين بنفس القدر الذي يُراعي به أبعادهم المعرفية.
إن الاستثمار في المختصين الاجتماعيين المدرسيين ليس مسألة خيار، بل ضرورة استراتيجية لبناء منظومة تربوية عادلة ومنصفة وفعالة. إنه استثمار في الوقاية من الهدر المدرسي، وفي معالجة الصعوبات الاجتماعية والنفسية المبكرة، وفي تحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص، وفي بناء رأس مال بشري سليم ومتوازن. ومن دون تفعيل حقيقي لدور هؤلاء المهنيين، ستبقى الإصلاحات التربوية ناقصة ومحدودة الأثر، وستستمر الفوارق الاجتماعية والتعليمية في التفاقم.
إن التحدي الأكبر اليوم هو الانتقال من الاعتراف النظري بأهمية الخدمة الاجتماعية المدرسية إلى الاعتراف الفعلي المترجم في سياسات وإجراءات ملموسة. وهذا يتطلب مسؤولية جماعية من جميع الفاعلين: صانعي القرار الذين يجب عليهم توفير الإطار القانوني والموارد الضرورية، والمسؤولين التربويين الذين يجب عليهم الاعتراف بالقيمة المهنية للمختصين الاجتماعيين وتمكينهم من ممارسة مهامهم، والمختصين الاجتماعيين أنفسهم الذين يجب عليهم المطالبة بحقوقهم المهنية والعمل على تطوير ممارساتهم، والأسر والمجتمع المدني الذين يجب عليهم دعم هذا التوجه والمساهمة في نجاحه.
فقط من خلال تضافر الجهود والالتزام الحقيقي يمكن أن نحقق التحول المنشود، ونجعل من المدرسة المغربية فضاءً للتعلم والنمو والرعاية الشاملة، حيث يجد كل متعلم، مهما كانت ظروفه الاجتماعية والنفسية، الدعم المناسب الذي يُمكنه من تطوير إمكانياته وتحقيق ذاته. إن نجاح المختصين الاجتماعيين المدرسيين هو في النهاية نجاح للمنظومة التربوية بأكملها، ونجاح للمشروع المجتمعي الذي يُراهن على التربية كرافعة أساسية للتنمية البشرية والتقدم الاجتماعي.

